شكل رحيل الشاعر الدكتور عبدالعزيز المقالح خسارة فادحة للمشهد الثقافى اليمنى والعربى عامة، فالدكتور المقالح ليس مجرد الشاعر الأشهر فى اليمن والأستاذ الجامعى الذى شكل أبوة رمزية لجيلين متعاقبين من رواد الحركة الأدبية، بل كان حقا جسرا للتواصل الثقافى بين اليمن ومحيطه الخارجي. وحالفنى الحظ أن أكون فى مراحل من العمر، من الذين اقتربوا منه، إلى الحد الذى يمكننى من قول شهادته بحق الراحل الكبير. وعلى صعيد معرفة المشهد الأدبى باليمن، لن تجد فى كل بلد تزوره من لا يعرف اليمن بشاعريها د. عبدالعزير المقالح والأستاذ عبدالله البردوني. فكلاهما من وضع اسم اليمن عاليا فى سماء الإبداع العربى خلال الخمسين عاما الماضية.
وميزة المقالح الذى جمع بين الأكاديمى العريق والشاعر الجميل الذى حلقت روحه بزهد صوفى لا يضاهى، أنه كان أيضا مؤسسة بمعنى الكلمة، هو من فتح نافذة التواصل مع مبدعى الدول الأخرى ليكون اليمن قبلتهم فى أنشطة عدة، ومن خلاله عرفنا كل قامات الإبداع وكان اليمن مزارا لكل أسماء الأدب والفكر فى الوطن العربى من أقصاه إلى أقصاه. ومن خلال تواصله الدؤوب وروحه الجميلة عرفنا نحن فى اليمن كل ألوان الطيف من مفكرين وشعراء ومبدعين.
ولأنه شكل رمزا للحداثة، وكان رغم زهده الأكثر حضورا و تأثيراً بجيل كامل من المؤثرين المبدعين ،فقد صار هدفا لحملات قاسية هددت حياته وسلامته الشخصية وليس فقط المحاولات البائسة فى الاغتيال المعنوي.
تعرض الراحل الكبير لأكبر حملات التكفير ووصل الأمر إلى فتاوى القتل والعمل على تنفيذ ذلك ضمن موجة الجنون والتطرف التى نالت رموز الفكر والحداثة والإبداع فى المنطقة.
صمد المقالح معتصما بزهده الجميل ورقته التى كانت أكثر قوة وصلابة من أسلحة التطرف وظلم السلطة. وبقى الرجل خلال عقوده الثمانية مؤمنا بنهوض هذه الأمة من المحيط إلى الخليج، لم يغير موقفه العروبى والتقدمي، ولم يتوقف عن الانتماء إلى شرف الكلمة ولم تغادر روحه سماء القصيدة.
وفى نظرى أن الحديث عن دور المقالح فى اليمن، يجب أن ينصَّب على ماقام به من أجل رد الاعتبار للثقافة فى النهوض بالمجتمع، ومواجهة التخلف، فتلك أبرز المهام المؤثرة. فقد أحسن الرجل استثمار موقعه الرسمى سواء كرئيس لجامعة صنعاء أو رئيس لمركز الدراسات والبحوث، فى تعزيز دور الثقافة والاهتمام بها، واحترام الإبداع الادبى والفني. يقدم الأصوات الجديدة بحماس ويتبنى مشروعها.
تنبه باكرا لأهمية دور الإبداع فى إبقاء جذوة الأمة مشتعلة بالمعرفة والانتماء إلى العصر، بمواجهة التخلف فكتب وقدم كل الاسماء الشعرية والفكرية من أقصى المغرب العربى وحتى سلطنة عمان، وله كتاب مميز فى ذلك اسمه -تلاقى الأطراف-. (قدم باكرا قراءات فى الإنتاج الأدبى لكل الدول العربية دون مبالغة ، وقدم إنتاج اليمن لهذه الدول).
كان مثل كثيرين بينهم نجيب محفوظ ينغرسون فى الأرض ولايحبون السفر ولا الطائرة فمكثوا بمدنهم ولم يغادروها، وهو كذلك بقى فى صنعاء لأكثر من أربعين عاما لم يغادرها لدولة أخرى، لكنه حلَّق فى سماء التواصل وفتح صنعاء لعشرات الاسماء المبدعة التى زارت وعاشت فى اليمن بسببه ودعمه. وقبلها كان فى القاهرة أيضا ولم يغادرها إلا قليلا فى شطر عمره الأول.
هذا الجانب من إعادة الاعتبار للمعرفة فى النهوض بالمجتمع، وضرورة أن تكون الثقافة جزءا رئيسيا فى التنمية وليست فائضا ديكوريا، وهو ما ميز مشروعه فى اليمن.
إنى أذكر كل ذلك ليس فقط تكريما للرجل وحقه وإنجازه كتقدير يستحقه ، ولكن أيضا لإحياء الفكرة النبيلة القابلة للحياة، والمهم إعادتها فى حياتنا والآن بالذات .
نعم بقى اسم المقالح مشتركاً عربياً اصيلاً وكان هو الاسم الذى نفخر به ونحن نجد قصيدته ضمن مقرر النصوص الأدبية التى تدرس للمرحلة الثانوية بالمنهج المصري، حيث حوى الكتاب آنذاك أول الثمانينيات (قصيدة العبور) للدكتور عبدالعزيز المقالح، وكنا نشير للزملاء والمدرسين بفخر هذا من اليمن. وللمفارقة المحزنة أنه وبعد أربعين عاما جاءت ميليشيات صنعاء للأسف هذا العام، لتلغى قصيدته فى المنهج اليمنى هناك، ويضعون مكانها هلوسة عن الخرافات المدمرة للعقل.
وكانت تلك آخر محاولات القتل المعنوى التى تعرض لها المقالح، فى صنعاء التى أخلص لها وذاب عشقا بها، ولم يغادرها حتى مات.
جاء من ينزع اسمه من مناهج الدرس، وهو ما انفك يهيم عشقا فى وطن مثخن بالجراح، متناسين أن المبدعين المحبين لا يغادرون ذاكرة الناس ولا تنساهم ذرات رمال بلدانهم، لأنهم جزء من عبقها ونسيجها. أصابه القهر المميت منذ خمس سنوات، وهو يرى صنعاء تهوى فى غيابة الجب فرثى نفسه قهرا قبل ما يزيد على أربع سنوات ونصف، فى قصيدة مبكية، مطلعها: ( أنا راحل حتماً فما الداعى إلى تأجيل موتي؟) وكأنه يستعجل الرحيل فى وطن ضاق به أبناؤه.
رأى الميليشيات تحاصر الجامعة والمكتبة، وتختطف بلد الإيمان والحكمة، وتغرس مشاعر الكراهية، فكانت تلك اللحظة أقسى من أن تُحتمل فقتلت شاعر اليمن وضميرها عبدالعزيز المقالح، الذى رحل وفى قلبه غصة اليمن.
*نقلا عن الأهرام