تغرق شوارع العاصمة اليمنية صنعاء بلوحات الحوثي وصور مؤسس الجماعة، حسين الحوثي، الذي قتل عام 2004 في أول دورة حرب في صعدة. وتذكر اللوحات عبارات منسوبة للمؤسس، وتصدرت صورته صحيفة "المسيرة" الناطقة باسم الجماعة، وتحتها عنوان عريض، يصف فيها حسين الحوثي بالقرآن الناطق. كانت الصحيفة في منتهى الجدية، وهي تمنح الرجل صفة القداسة الإلهية، قابلها اليمنيون بموجة من الضحك والسخرية، تطيح مقدسات الجماعة وأوهامها في آخر ما تبقى من مساحات التعبير عن الرأي بحرية في وسائل التواصل الاجتماعي.
لا يكتفي الحوثيون بممارسة الابتذال في احتفالاتهم بالمناسبات الدينية المختلفة، ففي مولد النبي، تتحول العاصمة إلى اللون الأخضر، لون علم الجماعة، بما فيها تغيير لون قباب مساجد أثرية، ويتحول النبي من صاحب رسالةٍ إلى علامةٍ تجاريةٍ مسجلة، وتتلاشى أهميته، حتى تقتصرعلى قرابته لعبد الملك الحوثي. التعامل مع مناسباتٍ كهذه باعتبارها أمورا تخص الجماعة الضيقة الأفق والانتماء في مظاهر أقل ما يقال عنها مبتذلة، تبخس من أي قيمة إنسانية أو أدبية لأي حدث، أمر لا ينتهي بؤسه عند هذا الحد من الابتذال.
عندما اجتاح الحوثيون مدينة صنعاء في 21 سبتمبر/ أيلول 2014، تلتها بخمسة أيام الذكرى الثانية والخمسون للثورة اليمنية ضد نظام الإمامة، لم يحتفل الحوثيون المنتشون بنصرهم بالحدث الذي اعتاد اليمنيون التعامل معه عيداً رسمياً وطنياً تحتفل به الدولة. لكن، حينها نزل مجموعة من الشباب والنساء، واحتفلوا بذكرى الثورة وسط الشارع، ما أثار حفيظة الحوثيين الذين وصفوا الحدث انقلاباً عسكرياً. كانت مشاعر الصدمة والذهول الغالبة على الناس. لكن، بعدها بعام اضطرت الجماعة إلى الاحتفال بثورة 26 سبتمبر في بعض المراسم البسيطة، مثل إيقاد شعلتها، فيما يمثل هزيمة كبرى للجماعة التي تعد هذه الثورة في وعيها انتكاسةً تاريخية كبرى، ودفعتها إلى ذلك محاولتها التخفيف من عزلتها عن المجتمع الذي تتباعد المسافات بينها وبينه.
إنفاق هائل وخصم لمرتبات شعبٍ في حالة احتياج مادي قاسٍ، لكي ينشر الحوثيون شعارات وصورا لا تخص أحداً في العاصمة سوى جماعتهم، فلم تكن صنعاء تشهد سوى الاحتفالات بمناسباتٍ وطنيةٍ، ولم يجرؤ الرئيس السابق علي عبدالله صالح الاحتفال بوصوله إلى السلطة علناً بعد مرور ثلاثة عقود على حكمه، بينما تتبجح جماعة الحوثي، منذ أول يوم، بنشر رموزها وشعاراتها في شوارع المدينة، متجاهلة حقيقة أنها جماعةٌ تتحرّك ضمن دوائر عصبية محدودة في الشعب اليمني، وغير واعية بمدى خطورة تصوراتها عن صنعاء مدينةً زيديةً، وليست عاصمة يمنية.
عندما سقطت صنعاء بيد الحوثيين، لم يتردد علي عبدالله صالح في القول: صنعاء سقطت في يد أبنائها، في تعبير جهوي واضح وصريح، وكأن صنعاء عندما كانت تحت سيطرة الدولة اليمنية يرأسها رئيسٌ لا ينتمي لدوائر عصبية تحالف الحوثي- صالح أصبحت في يد غير أبنائها، أو كأن صنعاء قطعة أرضٍ تنازعها مجموعة من الخصوم، ولم تكن عاصمة دولةٍ سقوطها بيد مليشيا يسقط حضور الدولة. وبالتالي، ينفي عن صنعاء صفة العاصمة.
صدرت أقوال مشابهة من الحوثي، فعندما كان يجتاح بقية المدن، كان يرد على تساؤلات الناس الغاضبة عن أي حق وبأي صفة يتجهون إلى هذه المدن؟ يأتي الرد ساخراً من المتحدثين باسم الجماعة: إذن، ما الذي جاء بأبناء هذه المدن إلى صنعاء؟ تبدو المقارنة فجةً بين أمرين، لا علاقة بينهما، كما تعبر عن انحراف تفكير الجماعة في المقارنة بين حضورها بقوة السلاح لفرض سلطةٍ غير شرعية على مدنٍ يمنية وحضور مواطنين يمنيين بشكل طبيعي في عاصمة دولتهم. تكرّرت أيضاً أقوال مشابهة، عندما تجرأ كثيرون من كتّاب الجماعة والمتحدثين باسمها في التعبير بسخطٍ لا يخلو من تحقيرٍ لأبناء المدن الذين يحتفلون بخروج مدنهم عن سيطرة الحوثي، بينما هم من سكان صنعاء، مرة أخرى يأتي السؤال: بأي جرأةٍ تحتفلون، وأنتم تسكنون صنعاء؟ هكذا، مرة أخرى، ينسون أن صنعاء مدينة لكل اليمنيين، وإن الحوثي لا يمثل صنعاء التي ينبغي خروجهم منها، لأنهم ضد سيطرة هؤلاء على مناطقهم.
في المقابل، كان هناك ردود فعل كثيرة ضد صنعاء تشمت في أي دمارٍ، يصيبها بسبب الحرب، إضافة إلى وصفها بالمركز المقدس، أي المركز المناطقي الذي يتحكّم باليمن منذ مئات السنوات، لكنه تعبير يتجاوز فكرة رفض مركزية الحكم، باحتكاره المناطقي، بحكم طبيعته الاستبداية إلى ذم كامل للمدينة وأهلها. يظل هذا كله أيضاً رد فعل على حقيقةٍ واحدةٍ وثابتة، وتزداد صلابةً مع الوقت منذ سبتمبر/ أيلول 2014، وهي فقدان صنعاء صفتها عاصمة للدولة اليمنية ومدينة لكل اليمنيين.
حتى قيام ثورة سبتمبر 1962، كانت صنعاء حاضرةً زيديةً بامتياز، على الرغم من أنها عاصمة النظام الإمامي في الشمال الذي يمثل الشوافع (السنة) نصف سكانه، لكن طبيعة النظام القاصرة على أبناء المذهب الزيدي في تكوينه، وعدم وجود أي بعد وطني شامل لبقية اليمنيين، بسبب طبيعة النظام الإمامي، جعلت منها مدينةً لا يسكنها سوى الزيود حتى نصف قرن مضى. بعد الثورة، وبحكم طبيعة النظام الجمهوري، بدأت المدينة تفتح أبوابها لموظفي الدولة والتجار وغيرهم من بقية أنحاء اليمن، بما فيهم حتى النازحين من الجنوب في أثناء الحروب المتتالية فيه.
منذ منتصف الستينيات، بدأت صنعاء تتسم بالتنوع، وصارت، منذ التسعينيات، أكبر حواضر اليمن على الإطلاق. وشهدت، منذ التسعينيات أيضاً، حراكاً مدنياً مهماً ضد السلطة من اعتصامات ومظاهرات، حراكاً سياسياً خالصاً، يتجاوز كل تقسيمات المجتمع الجهوية. هذا على مستوى السياسة، أما على مستوى المجتمع، فالمدينة كانت أكبر مساحة اختلاطٍ بين اليمنيين، من مختلف خلفياتهم المناطقية، في بلدٍ تفرض طبيعته الجبلية عليه التشتت السكاني، في وقتٍ لم تتطور كثيراً شبكة الطرق في اليمن، لتسهيل التنقل بين الجبال الوعرة.
تداخل المجتمع اليمني في صنعاء بسهولةٍ تنسف الأفكار التي تحاول إحداث انقساماتٍ قطعيةٍ حادة بين اليمنيين، وكأن التباين المناطقي والمذهبي يعني قطيعةً إنسانيةً لا مجال للتواصل فيه، تكونت علاقات مصاهرة بين مختلف المكونات، وتملك ناس من خارج صنعاء بيوتاً وصارت لهم مصادر رزق فيها، حتى جاء الحوثي، المسكون بالماضي وأوهامه، وقرّر التعامل مع صنعاء كأنه لم يمر خمسين عاماً من عام 1962 عندما كانت صنعاء مجرد حاضرة زيدية في نظام حكم دينيٍّ بطابع مذهبي.
لا يكتفي الحوثي فقط بتحويل المجال العام إلى مساحةٍ خاصةٍ لجماعته، يستثني منها بقية اليمنيين، بل يصر على تقويض أكبر حواضر اليمن، وأكبر مساحات التنوع البشري اليمني، وتحويلها مدينةً خاصة به، وبدوائر عصبيته. عندما تفقد صنعاء وجودها كأكبر حواضر اليمنيين يفقد اليمنيون مساحاتهم الحضرية المحدودة، بكل ما تعنيه المدينة من مساحات عملٍ مدنيٍّ، وتشكل مجتمعات بمفاهيم أكثر حداثة. عندما تفقد صنعاء تنوعها، تتحول اليمن كانتونات مناطقية، بلا مركز يحكمها ولا رابط يجمعها، ولا أيضاً فواصل حادة تقسمها، وتنهي المسألة. تفقد صنعاء عندما تتحول ساحة استعراض لشعارات الحوثي، وصور قياداته، صفتها عاصمة لليمن، ولا يمكن لليمن أن تكون دولةً بلا عاصمة، ولا يمكن للعاصمة أن تكون مجرد مساحة جغرافية لجماعة واحدة من اليمنيين.
* العربي الجديد