كنت في مقيل مع والدي رحمه الله في منزل علم من أعلام قريتي في مدينة ذمار عام 1985م –تقريبا- وكان في المقيل ثلاثة من الكبار هم: والدي وذلك العلم وأخوه الذي أصغر منه الذي احتل مكانه بعد الثورة، وهما علمان مهمان في منطقتي، وكل الثلاثة قد توفوا وأنا أصغر الموجودين ولا يوجد غيرنا.
كان والدي رحمه الله صديق للأخوين، وكانا يحترمانه، ويقدرانه فكم جلسنا معا، وكان الوالد يرسلني بسيارته – مرات كثيرة- لإحضار ذلك العلم إلى منزلنا للمقيل، وكنت اتفنن في اصلاح مجلسه للمقيل وكان الوالد دائم التواصل معه ومع أخيه، وكم جلسنا في جلسات المقيل في منزليهما وفي منزلنا، وكنت أكن لهما قدرا كبيرا من الاحترام، وكنت من المعجبين بهما، وكان للكبير -بشكل خاص-هيبة ومكانة وكاريزما غير عادية، وكان إذا حضر مجلسا لا يبارى في كلامه وتعليقاته، وكان ملبسه وعطره لا يُبارى، ولشعره الطويل المرجَّل الأبيض الظاهر على كتفيه من تحت غطاء الرأس (الشال) منظرا جميلا.
وكنت حينها قد التحقت بالمعهد العلمي في ذمار للدراسة بعد عودتي من هجرة قصيرة، وكان معي في ذلك المقيل كتاب المواريث عادة للمذاكرة منه، فاتركهم لمناقشاتهم وحواراتهم التي كانت لا تخرج عن الاهتمام بالشأن العام في القرية، والقرى المحيطة بقريتنا، ولم يكن لدي أي خلفية سياسية عن ذلك العَلم ولا عن أخيه لصغر سني وقلة تجربتي ومعارفي.
فلما شاف الأخ الأكبر – منهما-الكتاب في يدي ابتسم، وقال ضاحكا" وكانت ضحكته جهورية رهيبة لا يمكن نسيانها" (أيش هذا تشتي تنافس بيت فلان" وذكر اسم أسرة مشهورة بالعلم في القرية" ابرد لك(اترك) من هذه القراية (الدراسة) عيش مثل أبوك وجدك) فرد عليه أخوه الأصغر منه -فورا -مخاطبا لي (لا تصدقه اقرا و بس واتعلم جمهورية هو حينهم أصحابه أو أخواله) يقصد أنه يتعصب لهم لقرابته لهم، لم أعرف في حينها المقصد، لأني كنت صغيرا، ومعرفتي على قدي على حد تعبير أهل مصر.
طبعا ساد الضحك والوالد لم يعلق وأنا أيضا لم أرد فقط رديت عليه باسم الكتاب.
وكان والدي وجدي الذي طلب مني ترك الدراسة والاشتغال بشغلهما يمتهنان مهنة مشهورة في قريتنا هي نقاشة العيون (طب شعبي) وكان جدي ووالدي بالكاد يفكان الخط قراءة والكتابة ضعيفة جدا جدا، وكان معظم عملهما في الزراعة، ولهذا اتجه شباب القرية في السبعينات والثمانيات نحو السعودية للاغتراب، وكان من قريتنا قرابة ثمانين شابا في منطقة تبوك شمال المملكة العربية السعودية، وقد اشتهروا بأعمال البناء.
المهم في ذلك المجلس ذلك العلم لا يبارى لا في الأدب ولا في الثقافة ولا في السياسة، وكان ينتقل بالحاضرين من موضوع إلى موضوع حتى حان موعد الغروب وعدت إلى البيت وراحت الأيام وتلك المواجهة عالقة بذهني.
وفي أحد الأيام وفي جلسة مقيل أخرى ثمة شخص من قريتنا يناقش سياسة الرئيس صالح وكيف كان يفتش عن الشخصيات المؤثرة في اليمن وذكر ذلك العلم، وذكر أخاه ثم قال: فلان هذا الأسبوع دعاه علي عبد الله صالح وراح إلى عنده وجاب له مصروفا-كما هي عادة الرئيس صالح-وسأله عن حاجته فلم يطلب شيئا هو ذهب استجابة لدعوة الرئيس صالح سلم ورجع وأخذ المصروف الذي صرفه الرئيس صالح؛ لأن الرئيس صالح كان يغضب ممن لا يأخذ ما يعطيه، وقال ذلك الشخص: لأول مرة يتعامل مع قايد جمهوري من بعد الثورة –طبعا- الحديث عن ذلك العلم الذي قال لي في ذلك المقيل (أبرد لك من القراية) قلت للمتكلم ليش؟ فقال هو ملكي وعلى ما سمعت إنه أدى عهدا لبيت حميد الدين أنه لن يتعاون مع غيرهم، وبقي وفيٌ لهم إلى اليوم، وفلتوه وما حصل من بعدهم حاجة لكن الذهب ذهب (يقصد إنه ذهب بقي على الوفاء ولو لم يحصل منهم على شيء) طبعا لو أراد لكان من الأغنياء ولكنه فضَّل الفقر مع الوفاء لما عاهد عليه -رحمه الله-كان شخصية غير عادية لا يبارى في قدراته السياسية والثقافية والقبلية، وقد برز في ظل الجمهورية شخصيات أقل منه بكثير في قدراتهم وعلاقاتهم، ولو أراد لكان وزيرا أو محافظا، أو على الأقل مستشارا لرئيس الجمهورية، لكنه فضل الانكفاء والبعد عن الأضواء.
وبعدها استرسل، وقال عنه: هو ملكي حتى النخاع وبعد الثورة ترك منصبه(المشيخ) وفاء للملكيين، وخلفه(عينوا) أخوه الذي أصغر منه وأخوه جمهوري كبير.
فتذكرت تلك المواجهة في ذلك المقيل.
فتذكرت ثقافة العلم التي أتت بها ثورة سبتمبر مقابل ثقافة التجهيل التي كانت السمة الغالبة التي كان يرعاها العهد الملكي.
رحم الله من مات وحفظ الله الأحياء،، وسلامتكم
*خاص بالموقع بوست